الأفلام الوثائقية المخصصة لاستكشاف أعماق البحار ليست مادة تلفزيونية جديدة. يعود أول هذه الأعمال إلى عام 1954. ومع مرور السنين، توالت هذه الأفلام الوثائقية حتى وصلت إلى الآلاف، وملأت شاشات التلفزيون ومنصات البث. ورغم أنه موضوع خالد لا يمكن للمرء أن يشعر بالملل منه، إلا أنه أصبح من الصعب إنتاج فيلم وثائقي آخر عن العالم تحت الماء وتقديم محتوى جديد ومختلف عن السابق.
ولعل التميز والاختلاف هو أكثر ما كان يبحث عنه فريق عمل Our Oceans، السلسلة الوثائقية الجديدة التي تعرض على Netflix. وقد اجتمعت عناصر كثيرة لتحقيق هذا الهدف. من لقطات حصرية لمخلوقات بحرية تم تصويرها باستخدام تكنولوجيا هي الأولى من نوعها وعن قرب، إلى صوت الراوي…باراك أوباما نفسه.
وبين هاتين الخاصيتين هناك العديد من العناصر الأخرى التي تجعل من مشاهدة “محيطاتنا” تجربة غير عادية، لا تختلف كثيراً عن مشاهدة مسلسل مثير مليء بالمؤثرات البصرية.
كل حلقة من الحلقات الخمس مخصصة لأحد محيطات العالم، من المحيط الهادئ إلى المحيط الجنوبي إلى المحيط الهندي والمحيط الأطلسي والمحيط المتجمد. يقول الراوي أن تيارًا يتدفق بين هذه المحيطات، مما يجعلها عالمًا واحدًا. لكن من حلقة إلى أخرى تختلف الروايات والمشاهد، لتبقى نغمة الراوي ثابتة وممتعة للاستماع إليها.
ومن غير العادل أن نقارن موهبة أوباما الغنائية بموهبة أيقونة الطبيعة الوثائقية، المذيع والعالم البريطاني ديفيد أتينبورو. ويعتبر الأخير رائدا في مجاله وأحد المؤسسين لهذا النوع من العمل الوثائقي، في حين أن أوباما حديث العهد بالمجال. قد يغرق الرئيس الأميركي السابق أحياناً في روايات رتيبة، لكنه يبذل قصارى جهده ليجعل صوته انعكاساً للصورة المذهلة، معتمداً على اللون في النغمة والنكتة التي تبعث على الابتسامة والتفاعل الصوتي البارز مع المشاهد المذهلة. وبالإضافة إلى كونه موهبة تلفزيونية صاعدة، يعد أوباما أيضاً من أشد المدافعين عن البيئة البحرية، حيث نشأ في جزيرة هاواي الأمريكية.
يندمج صوت أوباما مع نص مكتوب بمهارة وحساسية كبيرتين، إلى جانب لمسة رائعة من الفكاهة. وتتميز السلسلة الوثائقية بسردها الذي لا يشبه النصوص التي تصاحب عادة هذا النوع من المحتوى. وهو يعتمد على تقنية الكتابة من الصور، أي مستوحى من المشاهد المذهلة التي تقدمها المحيطات ومخلوقاتها. في محيطاتنا، تتحول الكائنات البحرية إلى شخصيات، لكل منها قصة تتضمن صراعات وتحديات وعواطف وعلاقات ودية وعدائية. أمام مثل هذا النص بدرجة عالية من الإنسانية، يضطر المشاهد إلى التماهي مع الوضع الذي تواجهه الحياة المائية والطيور البحرية.
وفي المحيط الهندي يلتقي المشاهد بأنثى الحوت تحاول تناول أكبر قدر ممكن من الطعام من أجل إرضاع عجلها حديث الولادة الذي يشرب الكثير من الحليب. في المحيط الأطلسي، يقوم ذكور أسماك فريدي بتحضير الأرض لاستقبال الإناث لوضع بيضها. وتتنافس الأسماك مع بعضها البعض لتنظيف المساحة وتخليصها من أي شيء قد يزعج الإناث، مثل الحشائش والأصداف وحتى نجم البحر.
يدرك فريق محيطاتنا أن المعلومات العلمية وحدها لا تقنع الجمهور ولا تكفي لاتخاذ الإجراءات اللازمة. ولذلك قرر الاعتماد على المشاعر من خلال متابعة الأسماك والحيوانات الأخرى وتصويرها في مواقف تسهل على الإنسان التعرف عليها. مثل الدب في المحيط المتجمد الشمالي، يبحث بشكل جامح عن فريسة لإطعام شبلها الجائع.
ومن المشاهد التي تذهل العين والعقل بنفس القدر هذا الأخطبوط الصغير في المحيط الهندي الذي يصر على العثور على طبقتين متجانستين من الأصداف لكي يختبئ بينهما عن أعين وأفواه الأسماك المفترسة.
وما يميز السلسلة الوثائقية أيضًا هو أنها تواكب سلوكيات المجتمعات البحرية. ويساعد على التقاط هذه المشاهد عن قرب، باستخدام تقنية متقدمة جدًا بهذا العمق لأول مرة. لم يقدم هذا التصوير الفوتوغرافي الفريد متعة بصرية فحسب، بل كان علماء البحار مشغولين أيضًا بإعداد 20 دراسة جديدة حول سلوك الكائنات البحرية بناءً على ما رأوه في السلسلة. مع العلم أن 700 عالم وباحث شاركوا في إعداد محيطاتنا.
ومن المواضيع المهمة التي يسلط عليها الفيلم الوثائقي الضوء على التلوث البحري والآثار السلبية لتغير المناخ على المحيطات. وينبع هذا من الاهتمام الذي يوليه المنتجان التنفيذيان باراك وميشيل أوباما للوعي البيئي. وبينما خصصت الحلقة الأولى لتصوير سحر البحر، فإن الحلقة الثانية التي تناولت المحيط الهندي، تظهر كيف يمكن تحويل جنة تحت الماء إلى حاوية قمامة عملاقة. في هذه الحاوية، اعتادت الكائنات الصغيرة والكبيرة على البلاستيك والقمامة الأخرى وتتغذى عليها الآن.
الهدف من الفيلم الوثائقي ليس تجاريًا بقدر ما هو زيادة الوعي بالخطر الذي يشكله التأثير البشري على جمال المحيطات. يسافر فريق العمل مسافة 75 ألف ميل من منطلق حبه الكبير للبحار والمياه التي تغطي 71 بالمائة من سطح الأرض. ويرأس الفريق الثنائي الرئاسي الأمريكي السابق، المنشغل بمشروع ترفيهي كبير منذ عام 2018، وهو شركة إنتاج تدعى High Ground.
حتى الآن، أنتجت شركة أوباما أكثر من 20 مشروعًا، بما في ذلك الأفلام الروائية والأفلام الوثائقية والمسلسلات وبرامج الأطفال والبودكاست. وتعتبر معظم هذه المنتجات مستهدفة لأنها تحتوي على رسائل لرفع مستوى الوعي حول الإنسان والبيئة والمجتمع.
أما الموهبة الناشئة التي يشكل صوتها بعضاً من هذه الأعمال، باراك أوباما، فيبدو أن له مستقبلاً واعداً في هذا المجال. وتوجت إنجازاته الصوتية بجائزة إيمي عن فئة “أفضل راوي” عام 2022. سبق له أن فاز بجائزتي جرامي في نفس السياق.
المصدر: وكالات